الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
و{الأسماء الحسنى} ذكر ذلك في أربع سور أوّلها هذه السورة، وثانيها في آخر سورة بني إسرائيل في قوله تعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيًا ما تدعو فله الأسماء الحسنى} (الإسراء،).وثالثها في أوّل طه وهو قوله تعالى: {الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى} (طه،).ورابعها في آخر الحشر في قوله تعالى: {هو الله الخالق البارئ المصوّر له الأسماء الحسنى} (الحشر،).والحسنى مؤنث الأحسن كالكبرى والصغرى {فادعوه بها} أي: فسموه بتلك الصفات، وللدعاء شروط منها أن يعرف الداعي معاني الأسماء التي يدعو بها، ومنها أن يستحضر في قلبه عظمة المدعو سبحانه وتعالى، ومنها أن يخلص إليه في دعائه، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ لله تسعة وتسعين اسمًا مئة إلا واحدًا من أحصاها دخل الجنة إنه وتر يحب الوتر» وكان صلى الله عليه وسلم يقول: «يا الله يا رحمن» فقال المشركون: إنّ محمدًا وأصحابه يزعمون أنهم يعبدون ربًا واحدًا فما بال هذا يدعو اثنين فأنزل الله تعالى هذه الآية.والأسماء الحسنى كما في الحديث: «الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر الخالق البارئ المصوّر الغفار القهار الوهاب الرزاق الفتاح العليم القابض الباسط الخافض الرافع المعز المذلّ السميع البصير الحكم العدل اللطيف الخبير الحليم العظيم الغفور الشكور العليّ الكبير الحفيظ المقيت الحسيب الجليل الكريم الرقيب المجيب الواسع الحكيم الودود المجيد الباعث الشهيد الحق الوكيل القويّ المتين الوليّ الحميد المحصي المبدىء المعيد المحيي المميت الحيّ القيوم الواجد الماجد الواحد الأحد الفرد الصمد القادر المقتدر المقدّم المؤخر الأوّل الآخر الظاهر الباطن الوال المتعال البرّ التوّاب المنتقم العفوّ الرؤوف مالك الملك ذو الجلال والإكرام المقسط الجامع الغنيّ المغني المانع الضارّ النافع النور الهادي البديع الباقي الوارث الرشيد الصبور»، رواه الترمذي.قال النووي: اتفق العلماء على أنّ هذا الحديث ليس فيه حصر لأسمائه تعالى وليس معناه أنه ليس له أسماء غير هذه التسعة والتسعين، وقوله: «من أحصاها دخل الجنة» المراد الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها لا الإخبار بحصر الأسماء، ولهذا جاء في حديث آخر: «أسألك بكل اسم سميت به نفسك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك» وقد ذكر الحافظ أبو بكر بن العربي المالكي عن بعضهم: «إنّ لله تعالى ألف اسم» قال ابن العربي: وهذا قليل وقوله صلى الله عليه وسلم: «من أحصاها دخل الجنة» قال البخاري: من حفظها، وهو قول أكثر المحققين، وتعضده الرواية الأخرى من حفظها دخل الجنة، وقيل: من أحضر بباله عند ذكرها معناها وتفكر في مدلولها، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله وتر يحب الوتر» الوتر الفرد، ومعناه في وصف الله تعالى: الواحد الذي لا شريك له ولا نظير واختلفوا هل الاسم الأعظم الله أو الحيّ القيوم وهل الاسم عين المسمى أو غيره؟ وفي ذلك خلاف، وقد حققت ذلك في مقدمتي على البسملة والحمدلة {وذروا} أي: اتركوا {الذين يلحدون} أي: يميلون عن الحق {في أسمائه} أي: حيث اشتقوا منها أسماء لآلهتهم كاللات من الله والعزى من العزيز، ومنات من المنان، وقال أهل المعاني: الإلحاد في أسمائه تعالى هو أن تسميه بما لم يسم الله به نفسه، ولم يرد فيه نص من كتاب ولا سنة؛ لأن أسماءه تعالى كلها توقيفية فيجوز أن يقال: يا جواد، ولا يجوز أن يقال: يا سخي، ويجوز أن يقال: يا عالم، ولا يجوز أن يقال: يا عاقل، ويجوز أن يقال: يا حكيم، ولا يجوز أن يقال: يا طبيب {سيجزون} أي: في الدنيا والآخرة {ما كانوا يعملون} في هذا وعيد شديد لمن ألحد في أسمائه تعالى وهذا قبل الأمر بالقتال، وقرأ حمزة: {يَلحَدون} بفتح الياء والحاء من لحد، والباقون بضم الياء وكسر الحاء من ألحد.ولما ذكر سبحانه وتعالى إنه خلق للنار طائفة ضالين مضلين ملحدين عن الحق ذكر أنه خلق للجنة أمة هادين في الحق عادلين في الأمر بقوله تعالى: {وممن خلقنا أمة} أي: جماعة {يهدون بالحق وبه} أي: بالحق خاصة {يعدلون} أي: يجعلون الأمور متعادلة لا زيادة في شيء منها على ما ينبغي ولا نقص؛ لأنا وفقناهم فكشفنا عن أبصارهم حجاب الغفلة التي ألزمناها أولئك، واستدل بذلك على صحة الإجماع؛ لأنّ المراد منه إنّ في كلّ قرن طائفة بهذه الصفة، وأكثر المفسرين إنهم أمّة محمد صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تزال من أمتي طائفة على الحق إلى أن يأتي أمر الله» رواه الشيخان، وعن معاوية رضي الله تعالى عنه قال وهو يخطب: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا تزال من أمّتي أمّة قائمة بأمر الله لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» إذ لو اختص بعهد الرسول أو غيره لم يكن لذكره فائدة فإنه معلوم، وعن الكلبيّ هم الذين آمنوا من أهل الكتاب، وقيل: هم العلماء والدعاة إلى الدين.{والذين كذبوا بآياتنا} أي: القرآن أو غيره من أهل مكة أو غيرهم {سنستدرجهم} أي: سنستدنيهم إلى الهلاك قليلًا قليلًا، وأصل الاستدراج الاستبعاد والاستنزال درجة بعد درجة {من حيث لا يعلمون} أي: سنأخذهم قليلًا قليلًا من حيث لا يحتسبون، وذلك أنّ الله تعالى يفتح عليهم من النعم ما يغبطون به ويركنون إليه، ثم يأخذهم على غرّة أغفل ما يكونون.وقيل: سنقرّبهم إلى ما يهلكهم ونضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون ما يراد بهم؛ لأنهم كانوا إذا أتوا بذنب فتح الله تعالى عليهم من أبواب الخير والنعمة في الدنيا، فيزدادوا بذلك تماديًا في الغيّ والضلالة ويتدرجوا في الذنوب والمعاصي بسبب ترادف النعم يظنون أن تواتر النعم يقرب من الله تعالى، وإنما هي خذلان منه وتبعيد، فهو استدراج الله تعالى فيأخذهم الله تعالى أخذة واحدة أغفل ما يكونون عليه، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما حمل إليه كنوز كسرى قال: اللهمّ إني أعوذ بك أن أكون مستدرجًا فإني سمعتك تقول: {سنستدرجهم من حيث لا يعلمون}.{وأملي لهم} أي: أمهلهم وأطيل مدّة أعمارهم ليتمادوا في الكفر والمعاصي ولا أعاجلهم بالعقوبة ولا أفتح لهم باب التوبة {إنّ كيدي} أي: أخذي {متين} أي: شديد وإنما سماه كيدًا؛ لأنّ ظاهره إحسان وباطنه خذلان.{أو لم يتفكروا} فيعلموا {ما بصاحبهم} محمد صلى الله عليه وسلم {من جنة} أي: جنون.روي أنه صلى الله عليه وسلم صعد على الصفا فدعاهم فخذًا فخذًا يا بني فلان يا بني فلان يحذرهم بأس الله تعالى فقال قائلهم: إنّ صاحبكم لمجنون بات يهوّت إلى الصباح، فنزلت، ومعنى: يهوّت: يصوّت، يقال: هيت به وهوت به أي: صاح قاله الجوهريّ، وإنما نسبوه إلى الجنون وهو بريء منه؛ لأنه صلى الله عليه وسلم خالفهم في الأقوال والأفعال؛ لأنه كان معرضًا عن الدنيا ولذاتها مقبلًا على الآخرة ونعيمها مشتغلًا بالدعاء إلى الله تعالى وإنذارهم بأسه ونقمته ليلًا ونهارًا من غير ملال ولا ضجر، فعند ذلك نسبوه إلى الجنون، فبرّأه الله تعالى من الجنون بقوله تعالى: {إن} أي: ما {هو إلا نذير مبين} أي: بين الإنذار بحيث لا يخفى على ناظر {أولم ينظروا} أي: نظر اعتبار واستدلال {في ملكوت السموات والأرض} أي: ملكهما البالغ {وما} أي: وفيما {خلق الله من شيء} أي: غيرهما مما يقع عليه الشيء من الأجناس التي لا يمكن حصرها ليدل لهم على كمال قدرة صانعها ووحدة مبدعها وعظم شأن مالكها ومتولي أمرها؛ ليظهر لهم صحة ما يدعوهم إليه، وقوله تعالى: {وأن عسى أن يكون قد اقترب} أي: دنا {أجلهم} عطف على ملكوت، وأن مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن وكذا اسم يكون ولا يصح أن تكون أن مصدرية خلافًا للبيضاوي قال التفتازانيّ: لأنّ المصدرية لا تدخل الأفعال غير المتصرّفة التي لا مصادر لها، والمعنى أولم ينظروا في اقتراب آجالهم وتوقع حلولها، فيسارعوا إلى طلب الحق والتوجه إلى ما ينجيهم قبل مفاجأة الموت ونزول العذاب، فلعل أجلهم قد اقترب فيموتوا على الكفر قبل أن يؤمنوا فيصيروا إلى النار، فيجب على العاقل المبادرة إلى التفكر والاعتبار والنظر المؤدي إلى الفوز والنعيم الدائم {فبأيّ حديث} أي: كتاب {بعده} أي: الكتاب الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم {يؤمنون} أي: يصدّقون، وليس بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبيّ ولا بعد كتابه كتاب؛ لأنه خاتم الأنبياء، وكتابه خاتم الكتب لانقطاع الوحي بعده صلى الله عليه وسلم.فإن قيل: قوله تعالى: {فبأي حديث بعده يؤمنون} يدل على أنّ القرآن حادث كما تمسك به بعض المعتزلة أجيب: من جهة أهل السنة: بأنّ ذلك محمول على الألفاظ من الكلمات ولا نزاع في حداثتها.ثم ذكر تعالى علة إعراضهم عن الإيمان بقوله تعالى: {من يضلل الله فلا هادي له} بوجه من الوجوه أي: إنّ إعراض هؤلاء عن الإيمان لإضلال الله إياهم ولو هداهم لآمنوا {ويذرهم} أي: يتركهم {في طغيانهم} أي: ضلالهم وتماديهم في الكفر {يعمهون} أي: يتردّدون متحيرين لا يهتدون سبيلًا، وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر: {ونذرهم} بالنون والباقون بالياء، وجزم حمزة والكسائيّ الراء قال سيبويه: إنه عطف على محلّ الفاء وما بعدها من قوله تعالى: {فلا هادي له}؛ لأنّ موضع الفاء وما بعدها جزم لجواب الشرط، ورفعها الباقون استئنافًا، وهو مقطوع عما قبله. اهـ.
.قال الشوكاني في الآيات السابقة: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)...} الآيات.قوله: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا} خبر مقدّم و{أُمَّةٍ} مبتدأ مؤخر، و{يَهْدُونَ} وما بعده صفة له.ويجوز أن يكون {وَمِمَّنْ خَلَقْنَا} هو المبتدأ كما تقدّم في قوله: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ} [البقرة: 8].والمعنى: أن من جملة من خلقه الله أمة يهدون الناس متلبسين بالحق، أو يهدونهم بما عرفوه من الحق.وبالحق {يَعْدِلُونَ} بينهم.قيل: هم من هذه الأمة، وإنهم الفرقة الذين لا يزالون على الحق ظاهرين، كما ورد في الحديث الصحيح.ثم لما بين حال هذه الأمة الصالحة بين حال من يخالفهم فقال: {والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا سَنَسْتَدْرِجُهُم مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} والاستدراج: هو الأخذ بالتدريج منزلة بعد منزلة، والدرج: كفّ الشيء، يقال أدرجته ودرجته، ومنه إدارج الميت في أكفانه.
|